نظام النفقات في الشريعة الإسلامية ومقارنة المذاهب بعضها ببعض في ذلك
يراد بالنفقة ما يدفع به الإنسان حاجة غيره من غذاء ومسكن وملبس وما يلتحق بذلك من مطالب المعيشة والحياة.
نظام النفقات في الشريعة الإسلامية ومقارنة المذاهب بعضها ببعض في ذلك
بقلم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير العلامة الشيخ أحمد إبراهيم
أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة المصرية بكلية الحقوق
يراد بالنفقة ما يدفع به الإنسان حاجة غيره من غذاء ومسكن وملبس وما يلتحق بذلك من مطالب المعيشة والحياة.
تمهيد،
لكن شاء العقل الإنساني بعد أن أفاد ما أفاد مما ارتفع به عن مستوى الفطرة الأولى وشاء الدين القويم والشرع الحكيم أن يكون لنوع الإنسان نظام اجتماعي يبنى على التضامن العام بين أفراده وجماعاته لينتقل بالإنسان إلى حالة أسعد وأهنأ من تلك الفوضى الشاملة المطلقة.
وآخر هذه النظم وجودًا وخيرها وأرشدها على الإطلاق هي النظم الإسلامية لو أخذت على وجهها الصحيح واسترشد الآخذون بها بهدي الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الموفقين الأخيار وهدي أئمة الدين الإسلامي الذين فقهوا سر شرعه المتين ومقاصده وغاياته وطابقوا بين العلم والعمل طباق عالم خبير يراعي المقامات ومقتضيات الأحوال ويسير قدمًا في كل إصلاحاته وتحسينا ته حتى يصل إلى ما يستطاع الوصول إليه من الكماليات المقدرة للنوع الإنساني في الحياة الدنيا.
وسأذكر هنا أحد هذه النظم القويمة وهو نظام النفقات الواجبة على الإنسان لغيره من الأناسي والحيوان والأشياء فأقول:
وقد استثني من هذا الأصل الكلي لقصد ديني أسمى واعتبارات أدبية أدق وأنبل بعض الأفراد بالإضافة إلى بعض، كالوالدين بالنسبة للأولاد والإناث من الأولاد والأقارب ترفيهًا عليهم وصونًا لهم من الابتذال والكد والكدح في طلب الرزق وكذلك قضى الشرع العادل بأن من يحتبسه الإنسان لمصلحة تعود على المحتبس أن يقوم هو بنفقته جزاءً وفاقًا، ومن هنا وجب على الزوج أن يقوم بنفقة زوجته وكل حاجاتها المعاشية حتى تتفرغ لتأدية عملها الذي هيأتها له يد القدرة الإلهية بهدوء واطمئنان، فقد احتبسها الزوج لنفسه خاصة وقيدها بقيد الزوجية فلا جرم كان من الواجب عليه أن يقوم بكفايتها، ومن أجل هذا الاحتباس أيضًا وجبت نفقة المملوك على مالكه إنسانًا كان أو غير إنسان.
وهاك جملة القول في هذه النفقات الثلاث أسوقها إليك مقتصرًا على أمهات المسائل التي تصور لك وجهة النظر التشريعية في إيجاب النفقات وتقديرها وشروطها وما يسقطها دون الدخول في التفصيلات وذكر الفروع المتشعبة.
نفقة الزوجية
لكن إن كان السبب في تفويت الاستمتاع من ناحيته هو فلا تسقط النفقة، والأصل في ذلك أن كل ما فوت الاحتباس لا من جهة الزوج فإنه يسقط النفقة إلا فلا ومما يتفرع على ذلك:
( أ ) أن الزوج إذا كان صغيرًا لا يقدر على مباشرة النساء أو عنينا أو خصيًا أو مجبوبًا فإن الزوجة تستحق النفقة في كل هذه الأحوال إذا لم يوجد ما يسقطها من ناحية أخرى وذلك لأن التسليم قد تحقق منها وهو كل ما في وسعها وإنما العجز من جهته، وكذا إذا كان الزوج محبوسًا ولو بدين عليه لزوجته فلا تسقط نفقتها وإن كان غير قادر على أدائه لأن فوت الاحتباس من جهته.
(ب) إذا نشزت الزوجة على زوجها فلا نفقة لها لأن فوت الاحتباس منها فإن عادت إلى بيت الزوج ولو بعد سفره عاد الاحتباس فتجب لها النفقة بعد عودها وأما إذا منعت نفسها من الزوج وهي في بيته فلا تسقط نفقتها لقدرة الزوج على ما منعت نفسها منه بمكنته وواسع حيلته، وكذا إذا حبست ولو ظلمًا إلا إذ كان الزوج هو الذي حبسها وكذا إذا كانت الزوجة محترفة بعمل تعمله خارج المنزل فإذا منعها الزوج من الخروج وعصته فخرجت فلا نفقة لها ما دامت خارجة.
(ج) وإذا غصبها غاصب فلا نفقة لها مدة بعدها عن بيت زوجها لأن فوت الاحتباس ليس من جهته وهي في ذلك كالمحبوسة ظلمًا.
وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد – رحمهم الله – إلى أن النفقة لا تجب على الزوج بالعقد وإنما تجب عليه بالتمكين من الاستمتاع بشروطه وهاك جملة القول في ذلك.
أقول، وأبلغ من هذا ما حكاه في الهدي ونيل الأوطار عن ابن حزم من أنه إذا أعسر الزوج وكانت زوجته موسرة فإنه يجب عليها أن تنفق على نفسها وعلى زوجها المعسر ولا ترجع عليه بشيء مما أنفقه إذا أيسر وسيأتي هذا في موضعه.
ومما يسقط نفقة الزوجة نشوزها ومن ذلك منعها إياه من استمتاعه بها وكذا إن حبست بسبب مماطلتها أما إذا كان حبسها لغير ذلك فلا تسقط نفقتها لأن منعه من الاستمتاع ليس من جهتها وكذا إذا حبس زوجها ولو في دين لها عليه فلا تسقط نفقتها.
تنبيه
وأقول لا شك إن قواعد المذهب في نفقة الزوجة تؤيد ما قاله العلامة ابن عابدين، وقال في موضع آخر من رد المحتار لو أنفق على زوجته ثم تبين فساد النكاح بأن شهدوا بالرضاع مثلاً وفرق بينهما ففي الذخيرة له الرجوع بما أنفق بفرض القاضي لأنه تبين أنها أخذت بغير حق، ولو أنفق بلا فرض لا يرجع بشيء أهـ أي أنه يعتبر متبرعًا.
13 – ومذهب الشافعي – رحمه الله – في هذه المسألة هو عدم وجوب النفقة لها لا في حال اجتماعهما ولا بعد الافتراق ولو كانت حاملاً، لكن لو أنفق عليها بالفعل ثم فرق بينهما فلا رجوع له عليها بما أنفق بل يجعل ما أنفقه في مقابلة استمتاعه بها وإتلافه منافعها سواء أكانت حاملاً أم حائلاً.
14 – وأما مذهب أحمد – رحمه الله – فهو أن النفقة لا تجب في النكاح الفاسد لأن وجود العقد كعدمه وذلك إذا لم تكن الزوجة حاملاً فإن كانت حاملاً وجبت النفقة للحمل وأنه إذا أنفق عليها في النكاح الفاسد فلا يرجع عليها بشيء مما أنفق سواء أكانت النفقة قبل مفارقتها أم بعدها لأنه إن كان عالمًا بعدم الوجوب فهو متطوع للإنفاق وإن لم يكن عالمًا فهو مفرط فلا يرجع بشيء.
15 – وأما مذهب مالك – رحمه الله – فهو على هذا التفصيل المدخول بها في نكاح فاسد يدرأ الحد كمن تزوج ذات محرم جهلاً وكذا الموطوءة بشبهة إذا كانت كلتاهما لا زوج لها فإن حملت إحداهما من الواطئ فلها عليه النفقة والسكنى إذا كان لا يعلم بالحرمة فإن علم بالحرمة دونها فلها السكنى فقط لأنها محبوسة بسببه فإن علمت هي أيضًا فهي زانية لا سكنى لها ولا نفقة، وإن لم تحمل منه فالسكنى عليه والنفقة عليها وإن كانت ذات زوج ولم يكن زوجها قد دخل بها فإن حملت من الواطئ فسكناها ونفقتها عليه وإن لم تحمل فعليه السكنى فقط وأما النفقة فهي عليها لا على الواطئ على الراجح، وأما لو كان زوجها قد دخل بها فنفقتها وسكناها على زوجها حملت أم لا، إلا أن ينفي الزوج حملها بلعانٍ فلا نفقة لها عليه ولها السكنى على الزوج ما لم يلتحق الحمل بالواطئ الآخر فإن لحق به فالنفقة والسكنى حينئذٍ على ذلك الواطئ الغالط، وإذا كان ذلك الواطئ الغالط قد أنفق عليها في الأحوال التي لا تجب عليه نفقتها فيها بقضاء أو بغيره بناءً على الظاهر، ثم تبين له الغلط فهل يرجع عليها بما أنفق ؟ الظاهر أنه يرجع عليها بذلك بناءً على هذا الأصل الذي حكوا اتفاقهم عليه، وهو أن من أخذ مالاً من إنسان يجب له بقضاء أو غيره ثم ثبت أنه لم يكن يجب له شيء أنه يرد ما أخذه. أهـ
تقدير النفقة
الأول: أنها تقدر باعتبار حالها يسرًا وعسرًا، حكي ذلك في الخانية ومستند هذا القول ظاهر حديث هند الآتي.
الثاني: أنها تقدر باعتبار حال الزوج مع صرف النظر عن حالة الزوجة فإن كان موسرًا فالواجب عليه نفقة اليسار وإن كان معسرًا فنفقة الإعسار وهذا القول هو ظاهر الرواية وأخذ به أبو الحسن الكرخي وكثير من مشايخنا، ورجحه في المبسوط والبدائع ونقل في رد المحتار عن التحفة أنه الصحيح وبه قال الشافعي – رضي الله عنه – وهو المعمول به الآن في محاكمنا الشرعية بمقتضى المادة السادسة عشرة من المرسوم بقانون رقم (25) سنة 1929 ونصها:
(تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة).
وقد عللوا هذا القول بأن المرأة لما زوجت نفسها من معسر فقد رضيت بنفقة المعسرين فلا تستوجب على زوجها ما هو فوق قدرته واستدلوا بقوله تعالى (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا).
الثالث: أنها تقدر باعتبار حالهما جميعًا من يسر وعسر وإليه ذهب الخصاف ورجحه صاحب الهداية وقال إنه الفقه وبه أخذ أصحاب المتون والشروح فكانت عليه الفتوى وعليه العمل حتى صدر ذلك المرسوم بقانون المذكور آنفًا، ووجه هذا القول ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة – رضي الله عنها – إن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. أهـ.
17 – وعلى ذلك إذا كان الزوجان موسرين فللزوجة نفقة اليسار وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار ولو وصل الأمر إلى أدنى الكفاية وهذا باتفاق، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا فنفقة الوسط فإن كان الزوج هو الموسر أنفق عليها دون نفقة اليسار وفوق نفقة الإعسار متبعًا في ذلك ما عليه العرف، أما إن كان الزوج معسرًا والزوجة موسرة فقد قالوا إنه يقدر عليه لها نفقة الوسط ثم ينفق بقدر وسعه والباقي يكون دينًا عليه إلى الميسرة، وظاهر مذهب الإمام أحمد كذلك وقد صرح به في الفروع فقال نقلاً عن الترغيب ما نصه: إنه يفرض للموسرة مع الفقير أقل كفاية والباقي دين في ذمته، لكن حكي في الفروع أيضًا في موضع آخر قولاً بسقوط زيادة اليسار والتوسط في حالة إعسار الزوج، ومثله في كشاف القناع نقلاً عن المبدع.
وهذا القول هو المعتمد في مذهب الإمام مالك على ما حكاه الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير قال: اعلم إن اعتبار حالهما لا بد منه سواء تساويا غنى أو فقرًا أو كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا لكن اعتبار حالهما عند تساويهما فقرًا أو غنى ظاهر وأما عند اختلافهما فاللازم حالة وسطى بين الحالتين، وحينئذٍ فنفقة الفقير على الغنية أزيد من نفقته على الفقيرة كما أن نفقة الغني على الفقيرة أقل من نفقته على الغنية، هذا هو المعتمد، ثم حكي قولاً آخر من أن اعتبار حالهما إذا تساويا فإذا زاد حالها اعتبر وسعه فقط وإن نقصت حالها عن حاله اعتبرت حالة وسطى بين الحالتين أهـ أقول فهذا القول الثاني صريح في أن ما زاد على وسعه لا يكون دينًا في ذمته، وجمع الأستاذ الدردير – رحمه الله – بين القولين في شرحه جمعًا لطيفًا فقال: إن كان فقيرًا لا قدرة له إلا على أدنى كفاية فالعبرة بوسعه فقط وإن كان غنيًا ذا قدر وهي فقيرة أجيبت لحالة أعلى من حالها ودون حاله، وإن كانت غنية ذات قدر وهو فقير إلا أنه له قدرة على أرفع من حاله ولا قدرة له على حالها رفعها إلى الحالة التي يقدر عليها أهـ وبالجملة فإنه يعتبر وسعه وحالها.
18 – وأقول إن ما ذهب إليه الخصاف – رحمه الله – من أنه إذا كان الزوج موسرًا والزوجة معسرة ينفق عليها نفقة الوسط قول حسن عملاً بالعرف وقد قال ابن القيم – رحمه الله – في الهدي: لم يقدر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النفقة قدرًا معينًا ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف أهـ.
ولا مخالفة بين هذا القول والآية الكريمة لأن الزوج ينفق من وسعه ولا يكلف فوق طاقته لكن ما قاله الخصاف – رحمه الله – من أن الزوج إذا كان معسرًا فإنه ينفق بقدر وسعه والباقي دين عليه إلى الميسرة قول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة بل هو مما يكاد يصادم نص الآية الكريمة، وحديث هند صريح في أنها أمرت أن تأخذ من مال أبي سفيان كفايتها وكفاية أولادها بالمعروف فلم يكلف أبو سفيان بما هو فوق قدرته لأن الأخذ إنما كان من ماله الذي هو في ملكه وقت أن أمرت بالأخذ فأين الدليل على ما قال الخصاف في هذه الصورة الرابعة ؟
لا يقال إن الزوج إذا كان معسرًا كانت نفقة الزوجة دينًا في ذمته إلى الميسرة لأن دليل وجوب النفقة في ذمته قائم وهو احتباسها فوجبت عليه نفقتها بحسب العرف لا يقال هذا لأنه في أصل النفقة وأما مسألتنا هذه فالمفروض فيها أنه قادر على أن ينفق عليها بحسب وسعه فقط فكيف يخاطب بأكثر من هذا ؟ فلا الآية توجب عليه هذا ولا الحديث من ادعاه فعليه الدليل.
وبالجملة فالصواب هو ما قاله الأستاذ الدردير في شرحه على خليل وهو ما ذكرناه آنفًا وهو اختيار القاضي من الحنابلة من أن مراعاة حال الزوج في النفقة مشروطة بقدر الزوجة على ما كلف به وقت أن كلف به وهذا هو المعروف والمطابق لما جاء به الكتاب والسنة، ولقد أحسن الإمام مالك – رحمه الله تعالى – كل الإحسان في قوله بسقوط نفقة الزوجة عن زوجها في حال عسرته ثم هي بالخيار فإن شاءت المقام معه على ذلك فعلت وإلا فارقته.
فرض النفقة دراهم
لكن قال ابن القيم – رحمه الله – في الهدي ما نصه:
وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام إلخ ما قال وقد نقله عنه في الفروع ملخصًا.
أقول قد نقل في المبسوط عن محمد – رحمه الله – أنه قدر نفقة المعسر بأربعة دراهم في كل شهر لكنهم نصوا على أن هذا ليس بلازم لأنه إنما قدره على ما شاهد في زمانه، وقالوا على القاضي في كل زمن أن يعتبر الكفاية بالمعروف، وظاهر هذا هو أن تقدير النفقة بالدراهم جائز مطلقًا سواء أكان هناك ضرورة تدعو إلى ذلك أم لا وسواء رضي الزوج بذلك أم لا، وقد جرى العمل بهذا إلى الآن، وإذًا ينتقض ما قاله ابن القيم – رحمه الله – بالنسبة لمذهب أبي حنيفة – رحمه الله – لأن قول محمد قول لإمامه على ما تقرر في رسم المفتي، والله أعلم.
هذا وإني قد أوضحت النسبة بين أقوال الإمام وصاحبيه على أتم بيان في كتابي الكبير في المرافعات الشرعية.
20 – والحاصل على ما ذهب إليه غير الحنفية من الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم أن القاضي لا يملك أن يفرض بدل النفقة الواجبة دراهم إلا باتفاق الزوجين فلا يجبر الممتنع منهما على ذلك لأن المعارضة بغير الرضا لا تجوز بالإجماع لكن إن دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس به دفعًا للحاجة، نص على ذلك في الفروع وكشاف القناع والمهذب والروض والشرح الكبير وحاشية الدسوقي.
ومن مواضع الحاجة ما نقله في تقرير رد المحتار عن حاشية التحفة للشبراملسي قال: سئل شيخنا الرملي عن امرأة غاب عنها زوجها وترك معها أولادًا صغارًا ولم يترك عندها نفقة ولا أقام لها منفقًا وضاعت مصلحتها ومصلحة أولادها وحضرت إلى حاكم شافعي وأنهت إليه ذلك وشكت وتضررت وطلبت منه أن يفرض لها ولأولادها على زوجها نفقة ففرض لهم عن نفقتهم نقدًا معينًا في كل يوم وأذن لها في إنفاق ذلك عليها وعلى أولادها وفي الاستدانة عليه عند تعذر الأخذ من ماله والرجوع عليه بذلك وقبلت ذلك منه فهل الفرض والتقدير صحيح ؟ وإذا قدر الزوج لزوجته نظير كسوتها عليه حين العقد نقدًا كما يكتب في وثائق الأنكحة ومضت على ذلك مدة وطالبته بما قدر لها عن تلك المدة وادعت عليه بذلك عند حاكم شافعي واعترف به وألزمه به فهل إلزامه صحيح أولاً ؟ وهل إذا مات الزوج وترك زوجته ولم يقدر لها كسوة وأثبتت وسألت الحاكم الشافعي أن يقدر لها عن كسوتها الماضية التي حلفت على استحقاقها نقدًا وأجابها لذلك وقدره لها كما يفعله القضاة الآن فهل له ذلك أو لا ؟ وهل ما يفعله القضاة من الفرض للزوجة والأولاد عن النفقة أو الكسوة عند الغيبة أو الحضور نقدًا صحيح أولاً ؟
(فأجاب: تقدير الشافعي في المسائل الثلاث صحيح إذ الحاجة داعية إليه والمصلحة تقتضيه فله فعله ويثاب عليه بل يجب عليه أهـ ثم قال في التقرير فعلى هذا لا خلاف بين المذهبين في تقدير النفقة نقدًا أهـ.
وأقول لا يخفى إن الغرض من فرض النفقة للزوجة إنما هو دفع حاجتها فليكن هذا في كل زمان ومكان بأيسر طريق نظرًا إلى المصلحة في ذاتها بدون تعمق في التدقيقات الفقهية وحرص شديد على تطبيق ما يتراءى من القواعد إذ قد يكون للمسألة الجزئية الواحدة أكثر من اعتبار واحد فتتنازعها القواعد والأصول وقد يتشابه الأمر ففي مثل هذا يجب توجيه النظر في تقرير الحكم إلى الباعث الشرعي ليحقق غرض الشارع بما هو أدنى إلى تحقيقه من الطرق الممكنة.
توابع نفقة الزوجة
وإذا لم يكن للزوجة خادم مملوك فإن شاء الزوج استأجر أو استعار لها من يخدمها وإن شاء قضى لها حاجاتها بنفسه، وإذا أراد الزوج إخراج خادمها المملوك لها من بيته وأحضر لها خادمًا من عنده فلا يقبل ذلك منه إلا برضاها لأنها قد لا تتهيأ لها الخدمة بخادم الزوج لكن إذا كان الزوج يتضرر من خادمها بأن كان يختلس من ثمن ما يشتريه أو كان غير مأمون على أمتعة بيته أو كان مفسدًا فالزوج يعذر في إخراجه فله أن يستبدل به خادمًا أمينًا من عنده ولا يتوقف ذلك على رضاء الزوجة.
وإذا كان له أولاد لا يكفيهم خادم واحد فرض عليه نفقة خادمين أو أكثر على حسب الحاجة لأن ذلك من جملة نفقتهم الواجبة لهم عليه.
وإذا زفت إليه بخدم كثير استحقت نفقة الجميع إذ المعتبر حالها في بيت أبيها لا حالها الطارئ في بيت زوجها وهذا القول رواية عن أبي يوسف اختيرت للفتوى وأما على ظاهر الرواية فالواجب نفقة خادم واحد مطلقًا، وثم أقوال أخرى في المسألة.
22 – ولا تقدر نفقة الخادم بالنقود بل يفرض له ما يكفيه بالمعروف ولكن لا يبلغ به نفقة الزوجة لأنه تابع لها فتنقص نفقته عنها وليتبع في ذلك ما جرى به العرف.
وهذا كله إذا كان الزوج موسرًا قادرًا على إخدام زوجته فإن كان معسرًا فلا تجب عليه نفقة خادم لها بل الواجب عليه في هذه الحالة أدنى الكفاية وهي قد تكتفي بخدمة نفسها.
وإن كان الخادم مملوكًا لها واتفقا على خدمته لزمته نفقة له دون ما يجب للزوجة على ما جرى به العرف بحسب وسعه أهـ ملخصًا.
24 – ومذهب أحمد – رحمه الله – في ذلك كمذهب الإمام الشافعي فلا حاجة إلى إيراد ما قيل فيه منعًا للتكرار غير أنهم نصوا على أنه يلزمه مؤنسة لها إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأحسب أن المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك لأنه من باب المعاشرة بالمعروف وهي مأمور بها شرعًا، وانظر ما قاله في الدر المختار وما بحثه في رد المحتار في هذه المسألة ففيه تفصيل حسن.
25 – وعلى ما ذهب إليه مالك – رحمه الله – أن الزوج إذا كان ذا سعة وزوجته ذات قدر ليس شأنها الخدمة أو كان هو ذا قدر تزري به خدمة زوجته وجب عليه أن يأتي لها بخادم ولو بالأجرة وإذا لم يكفِ خادم واحد أنى لها بأكثر على حسب الحاجة على القول الصحيح، وقيل لا يلزمه أكثر من خادم واحد، وإذا طلبت الزوجة أن خادمها هو الذي يخدمها ويكون عندها وطلب الزوج أن يخدمها خادمة فإنه يقضي لها بخادمها لأن الخدمة لها وحينئذٍ يلزم الزوج أن ينفق عليه، لكن إذا دلت القرائن على ريبة في خادمها تضر بالزوج في الدين أو الدنيا فإنه يقضي بخادم الزوج ولا تجاب إلى طلبها، وإن كانت الزوجة أهلاً للإخدام لكن الزوج فقير أو لم تكن أهلاً له بأن كانت من لفيف الناس والزوج ليس ذا قدر وجبت عليها الخدمة الباطنة داخل المنزل بقدر حاجتها هي وزوجها فقط دون أولاده ووالديه وضيوفه ولا يجب عليها شيء وراء ذلك فلا تجبر على أن تتكسب لزوجها من غزل أو خياطة أو غير ذلك إلا أن تتطوع من تلقاء نفسها بشيء من ذلك.
26 – وتتميمًا للفائدة أذكر هنا خلاصة ما قاله ابن القيم -رحمه الله – في خدمة الزوجة لزوجها قال:
اختلف الفقهاء في ذلك فأوجبت طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت وبالغ بعضهم في ذلك فأوجب عليها خدمته في كل شيء، ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء ما، قالوا لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع وما ورد من الأحاديث من أن فاطمة – رضي الله عنها – كانت تقوم بالخدمة المنزلية لزوجها علي – رضي الله عنها – وأن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – كانت تقوم بكل ما يلزم لزوجها الزبير بن العوام – رضي الله عنه – من الخدمة فإنما كان ذلك على سبيل التطوع ومكارم الأخلاق لا على سبيل الوجوب والإلزام، واحتج من أوجب الخدمة بأنه من المنكر ترفيه المرأة وقيام الرجل بكل ما يلزم لها من الخدمة، والله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ويقول (الرجال قوامون على النساء)، وإذا لم تخدمه المرأة بل كان هو الخادم لها انعكس الأمر وكانت هي القوامة عليه، وقالوا أيضًا إن المهر في مقابلة الاستمتاع وهذا قدر مشترك بينهما فكل من الزوجين يستمتع بالآخر فإذٍ تكون نفقتها وكسوتها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج فكان عليه المال في المهر والنفقة لأنه هو القادر على الكسب عادةً وعليها في مقابلة ذلك الخدمة المنزلية وما جرت العادة أن تقوم به النساء لأزواجهن وبهذا يتم التعادل بينهما. وقالوا أيضًا إن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف – والعرف هو خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة.
وأما قول الفريق الأول إن فاطمة وأسماء رضوان الله عليهما لم تكن الخدمة واجبة عليهما غير صحيح، لأن فاطمة لما شكت إلى أبيها صلوات الله وسلامه عليه ما تلقى من مشقة الخدمة لم يشكها [(2)] فلم يقل لعلي لا خدمة عليها بل الخدمة عليك أنت وهو – صلى الله عليه وسلم – لا يحابي في الحكم أحدًا، وكذلك لما رأى أسماء وهي قائمة بخدمة زوجها داخل المنزل وخارجه لم يقل لزوجها لا خدمة لك عليها وأن هذا ظلم بل أقره على استخدامها وأقر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية أهـ، وقد علمت مما تقدم توسط مذهب مالك – رحمه الله – في هذه المسألة.
27 – ومما يتصل بذلك ما ذهب إليه أصحابنا – رحمهم الله – من أنه لا حق للزوج في شيء من جهاز زوجته وليس له أن يجبرها على فرش أمتعتها ولا تقديم شيء منها له أو لا ضيافة وإنما له الانتفاع بها بإذن منها، ولو اغتصب شيئًا من الجهاز حال قيام الزوجية أو بعد انحلال عقدتها فلها مطالبته به أو ببدله له من مثل أو قيمة إذا استهلكه أو هلك عنده لأن يده عليه يد غاصب، وكل ما يلزم للبيت من فراش وغيره واجب على الزوج وحده، فقارن هذا بما ذهب إليه مالك – رحمه الله – من أن للزوج أن يتمتع بجهاز زوجته ويستعمل منه ما يجوز له استعماله وحده أو معها، وإذا كان في ثيابها ما يصلح لأن يلبسه جاز له لبسه وله منعها من إخراج الجهاز من ملكها ببيع أو هبة لأن ذلك يفوت عليه حق استمتاعه به، وقيل لها بيعه بعد مضي مدة تكفي لانتفاع الزوج به وقدر ذلك بأكثر من سنة وقيل أربع سنين وإذا بلي الجهاز باستعماله فلا يلزمه بدله فلو جدد ما بلي منه ثم طلقها فلا يقضي لها بأخذه بل هو ملك للزوج. [(3)]
دين النفقة
( أ ) إذا لم تكن النفقة مفروضة لها لا بقضاء قاضٍ ولا بتراضٍ بينهما وبين زوجها وقد مضى على عدم الإنفاق عليها شهر فأكثر فلا تصير النفقة دينًا في هذه الحالة ولا يطالب بها الزوج مهما طال الزمن لأنها صلة وليست بعوض حقيقي ولم يوجد ما يقوي الوجوب فيها.
(ب) أن تكون مفروضة بالتراضي أو بقضاء القاضي وفي هذه الحالة تتقوى بعض الشيء فتصير دينًا في ذمة الزوج لكنه دين ضعيف فكما يسقط بالأداء أو الإبراء كذلك يسقط بالنشوز وبالموت وبالطلاق على تفصيل في بعض ذلك، وكذلك نفقة أقل من شهر إذا لم تكن متراضى عليها أو مقضيًا بها، وعللوا ذلك بأن المرأة لا تتمكن من أخذ نفقتها إلا بعد مضي مدة قبل القضاء بها، وما دون الشهر كافٍ لذلك، وما دون الشهر عاجل.
(ج) أن تكون مفروضة بالقضاء أو التراضي وقد أمرها الزوج أو القاضي بالاستدانة وفي هذه الحالة تكون النفقة دينًا صحيحًا في ذمة الزوج لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء.
وقد كان العمل في محاكمنا الشرعية المصرية على هذا حتى صدر القانون رقم (25) سنة 1920 فجعل نفقة الزوجة والمعتدة في كل أحوالها دينًا صحيحًا ثابتًا في الذمة.
29 – وأما على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، فإن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، وعلل ذلك في المهذب بأنها مال وجب على سبيل البدل في عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمن، والحاصل أن اختلاف وجهة النظر في صفة نفقة الزوجة أدى إلى الخلاف في سقوطها، فمن رأى أنها معاوضة لم يسقطها كما هو شأن الإبدال في المعاوضات، ومن قال إنها صلة أسقطها ما لم تتقوا بقضاء أو تراضٍ ثم أمر بالاستدانة من الزوج أو القاضي وانظر هذا البحث في الهدي فقد أطال القول فيه وانتهى به الكلام إلى ترجيح مذهب القائلين بالسقوط بمضي الزمن.
هل يفرق بين الزوجين بسبب إعسار الزوج بالنفقة ؟
31 – وذهب جمهور علماء الشريعة إلى أن الزوج إذا أعسر بنفقة زوجته واختارت فراقه فرق بينهما، وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، لكن التفريق بينهما على قول أحمد فسخ لا رجعة للزوج بعده وأن أيسر في العدة، ولو أن القاضي لم يفسخ بل أجبر الزوج على طلاقها فطلقها رجعيًا فله رجعتها، فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخ فسخ عليه ثانيًا وثالثًا، وإن رضيت بالمقام معه على عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذلك وهو مذهب الشافعي أيضًا لأن النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فيتجدد حق الفسخ، وقيل ليس لها في الموضعين، وهو قول مالك – رحمه الله – لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به، وعلى قول مالك يكون التفريق بينهما بطلقة رجعية فللزوج الرجعة إذا كانت المرأة مدخولاً بها ووجد الزوج يسارًا في العدة يقوم بواجب مثلها عادةً لا دونه وإلا فليس له الرجعة بل لا تصح، وأما على مذهب الشافعي – رحمه الله – فقيل إن الحاكم يطلق عليه طلقة رجعية، فإن راجعها طلق عليه ثانية، فإن راجعها طلق عليه ثالثة وقيل أنه فسخ.
وهل لها الفسخ في الحال أو تنتظر ؟ قيل بالأول لأنه فسخ لتعذر العوض فتثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن، وقيل إنه يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في الغد، ولا يمكن إمهاله أكثر من ذلك لأنه قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة، ولا يجوز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلا يصح بغير الحاكم، وحكى في الهدي عن عمر بن عبد العزيز أن الحاكم يؤجله شهرًا أو شهرين، وحكي عن حماد بن سليمان أنه يؤجله سنة، واتفقوا على أن الإعسار بنفقة الخادم لا يثبت لها حق الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم، والمرأة يمكنها الصبر عنها، وهذا هو المشهور من مذهب مالك.
وقد أخذ القانون رقم (25) سنة 1920 بمذهب مالك في هذه المسألة، وحجة الجمهور على ما ذهبوا إليه أن الزوج إذا أعسر بالنفقة فقد عجز عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بالإحسان فإن لم يفعل قام مقامه الحاكم في ذلك لما له من ولاية رفع الظلم، وزاد مالك – رحمه الله – على ذلك أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك وفي كل أمر يتعذر الوصول فيه إلى الحاكم أو لكونه غير عدل بل الواحد كافٍ لذلك، واحتجوا أيضًا بما رواه أبو هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال (يفرق بينهما).
32 – وفي هذه المسألة ثلاثة آراء أخرى أذكرها هنا تتميمًا للبحث:
( أ ) قال أبو محمد بن حزم في المحلي: إذا عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية كلفت النفقة عليه ولا ترجع بشيء من ذلك عليه إذا أيسر أهـ.
ولا يخفي ما في هذا القول من إحكام رابطة المودة والرحمة بين الزوجين حتى لكأنهما شخص واحد.
(ب) ما حكوه عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه، وقد استبعد ابن القيم هذا القول كل الاستبعاد، فقال يا لله العجب لأي شيء يسجن ويجمع عليه من عذاب السجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله سبحانك هذا بهتان عظيم وما أظن من شم رائحة العلم يقول هذا. أهـ.
(ج) ما اختاره ابن القيم بعد أن محص كل الآراء قال: والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غر المرأة بأنه ذو مال فتزوجته على ذلك فظهر معدمًا لا شيء له أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم أن لها الفسخ، وأن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرًا ثم إصابته جائحة اجتاحت ماله فلا فسخ لها، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن أهـ ولعل هذا القول هو أعدل الأقوال.
نفقة المعتدة
فعلى مذهب أبي حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – تثبت النفقة لكل معتدة من نكاح صحيح إلا لاثنتين معتدة الوفاة والمعتدة بسبب فرقة أتت من ناحيتها بفعل هو معصية كأن تفعل ما يوجب حرمة المصاهرة بأحد أصول الزوج أو أحد فروعه أو يكون سبب الفرقة ردتها، وفيما عدا هاتين الحالتين فللمعتدة نفقتها ما دامت العدة لا فرق في ذلك بين طلاق رجعي وطلاق بائن وفسخ، وعللوا ذلك بأن النفقة واجبة لها جزاء احتباسها، واحتباسها لا يزال قائمًا بقيام العدة وعلة سقوط نفقة المعتدة بسبب فرقة منها هي معصية عقوبتها على ما صنعت وأما المتوفى زوجها فقد قالوا إن تربصها إنما هو عبادة لحق الشرع لا لحق الزوج، أقول وقد تكون علة ذلك أن الزواج تعاقد شخصي فلا يلزم بأحكامه غير المتعاقدين، وبعد موت الزوج ينتقل ماله إلى غيره من دائنين وموصى لهم وورثة فلم يبقَ لزوجته حق فيه بمقتضى عقد الزواج غير الميراث بحكم الشرع وإنما تجب عليها السكنى والمبيت في البيت الذي كانت تسكنه مع زوجها حتى تنتهي عدتها ولا تخرج منه إلا لعذر على ما هو مبين في موضعه.
34 – وقد حكى أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن عن بعض علماء السلف وجوب النفقة لزوجة المتوفى في تركته وأنها تعتبر من الحقوق المتعلقة بالتركة أهـ. وأقول لا شك إن هذا نظر حسن جدًا وذلك لأنها لما حبست عن الأزواج مدة العدة كان من المناسب جدًا أن ينفق عليها في تلك المدة من مال من احتبست بسببه إذ لا فرق بين حبس وحبس فإن لم يترك مالاً فنفقتها في هذه الحالة على نفسها واجبة عليها إن قدرت عليها أو على أقاربها على ما هو مبين في نفقات الأقارب.
35 – ومما تقدم يتبين لك أن نفقة المعتدة الواجبة لها يستمر وجوبها لها ما بقيت العدة لامتناع تخلف المعلول عن علته، لكن قضت المادة السابعة عشرة من المرسوم بقانون رقم (25) سنة 1929 بأنه لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق أهـ واعتبروا هذا من باب تخصيص القضاء، وأقول إن هذه تكأة ضعيفة جدًا وتشريع غير متين قد لجأوا إليه أكثر من مرة حتى كادوا يخرجون به عن معنى تخصيص القضاء، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – ومن العجب هنا أنهم يعترفون بالسبب – ولو دلالة لوجوب نفقة العدة وهو قيام العدة – ثم يغضون النظر عن الآثار المترتبة عليه شرعًا وهي من لوازمه حتمًا اعتمادًا على هذا الذي سموه تخصيص القضاء حتى أدى بهم الأمر إلى وضع أحكام تحول بين الأسباب ومسبباتها والعلل ومعلولاتها واللوازم وملزوماتها وهذا مما يأباه الشرع والعقل جميعًا، على أن من راجع كتب الأئمة الأربعة وغيرهم حتى المطبوع منها والمتداول بين أيدينا وجد فيها متسعًا عظيمًا لحل هذا الإشكال وغيره بلا تفكيك ولا اضطراب، والهادي هو الله.
36 – وعلى ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وجمهور كبير من الفقهاء أن المعتدة من طلاق رجعي تجب لها النفقة والكسوة والسكنى لقيام السبب الموجب لذلك كالزوجة تمامًا إلا في بعض أشياء استثنوها تعرفها بمراجعة كتبهم بنوها على ما لاحظوه من الفرق بين الزوجة والمعتده لطلاق رجعي.
وقد نص ابن جزي في قوانينه على أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها لا من مال زوجها ولا من حظ الحمل من الميراث، ونص في الإقناع وكشاف القناع على أن الحامل المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من نصيب الحمل من التركة وهذا يدل على ثبوت ملك الحمل من يوم موت مورثه، وإنما بخروجه حيًا يتبين ذلك، ومن هنا يتبين لك الفرق بين مذهب أحمد ومذهب مالك في اعتبار أن النفقة للحمل، وأما على القول الآخر للشافعي فلا تجب النفقة للحمل على أبيه بعد موته أهـ.
وسنتكلم في العدد الآتي على باقي أحكام النفقات إن شاء الله
5 إبريل سنة 1930.